شـبكـه ومنتديات الحبيب المصطفى
مرحباا بكم
انتم اصحاب الشبكه ونحن الزوار
نرحب بكم
ونرجوا الانضمام الينا
وهوه ليس واجبا عليك ...
الشبكه اسلاميه ..فتاكد اخي لايوجد رابط مخفي او موضوع مخفي عن الزوار
ربنا اجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم


"ادارة الشبكــه"
شـبكـه ومنتديات الحبيب المصطفى
مرحباا بكم
انتم اصحاب الشبكه ونحن الزوار
نرحب بكم
ونرجوا الانضمام الينا
وهوه ليس واجبا عليك ...
الشبكه اسلاميه ..فتاكد اخي لايوجد رابط مخفي او موضوع مخفي عن الزوار
ربنا اجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم


"ادارة الشبكــه"
شـبكـه ومنتديات الحبيب المصطفى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


شبكه ومنتديات الحبيب المصطفى
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولمركز تحميل الملفاتسجل بعضويه مميزه مجانا
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
» موسوعه مواقع للتحمل والتصفح للقران الكريم ولاستفاده من مواضيعهاا
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالثلاثاء يوليو 12, 2011 5:05 am من طرف اسلامي للموت

» تدبر القرآن
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:18 am من طرف حامي الدين

» حي على الصلاة
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:17 am من طرف حامي الدين

» الكاذب والغشاش
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:15 am من طرف حامي الدين

» كم ينبض قلبك بالسنة؟؟
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:13 am من طرف حامي الدين

» أذكار المساء
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:12 am من طرف حامي الدين

» دعاء من خاف ظلم السلطان
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:10 am من طرف حامي الدين

» الدعاء عند دخول المنزل
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:08 am من طرف حامي الدين

» لدعاء إذا نزل المطر
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالأربعاء يونيو 29, 2011 2:06 am من طرف حامي الدين

تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات صوت الحق للقران الكريم على موقع حفض الصفحات

قم بحفض و مشاطرة الرابط شـبكـه ومنتديات الحبيب المصطفى على موقع حفض الصفحات
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر
سحابة الكلمات الدلالية

 

 فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:00 am

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله


مقدمة الكتاب

قال شيخ الإسلام أحْمَدُ بن تَيْمية قَدسَ اللَّه روحه‏:‏
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏.‏ العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون ،الذي إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له‏:‏ كن فيكون، الذى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد فى الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، الذي دل على وحدانيته في إلهيته أجناس الآيات، وأبان علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرته على بريته ما أبدعه من أصناف المحدثات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوّع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السموات، وأعلم بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناء عليه ،بل هو كما أثنى على نفسه لما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يمثاله فيها شىء من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شىء في نعوت الكمال، أو يلحقه شىء من الآفات، فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، الذي خلق السموات والأرض ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا‏.‏
أرسل الرسل مُبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيما، ومنذرين لمن عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذبوا عذابًا أليما، وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره المشركون‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51-52 ‏]‏‏.‏ وجعل لكل منهم شرعةً ومنهاجًا، ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجًا ‏.‏
وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذابٍ شديد‏.‏ بعثه بأفضل المناهج والشِّرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من كتب السماء‏.‏
وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله‏.‏ هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذ لم يبق بعده نبي يبين ما بدل من الرسالة، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضى لهم الإسلام دينا، وأظهره على الدين كله إظهارا بالنصرة والتمكين، وإظهارًا بالحجة والتبيين، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب‏.‏
وحفظ لهم الذّكر الذي أنزله من الكتاب المكنون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏9‏]‏‏.‏ فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل‏.‏
وخصهم بالرواية والإسناد الذي يميز به بين الصدق والكذب الجهابذة النقاد، وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيي بهم دين اللّه الذي بعث به رسوله، وبين اللّه بهم للناس سبيله، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ ‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله المرسلين، وملك يوم الدين‏.‏
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال‏.‏ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ الدين وهدى العالمين وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور اللّه أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة اللّه على الإنس والجان، لما قام المستجيب من معد بن عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاة يرضى بها الملك الديان، وسلم تسليمًا مقرونًا بالرضوان‏.‏
أما بعد ‏:‏
فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة فى المعاد إلا باتباع رسوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏ فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التى عليه تدور، ومستقر النجاة الذى عنه لا تحور‏.‏
فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏‏[‏الذاريات 56‏]‏‏.‏ وإنما تعبَّدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب فى دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله‏.‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ أخرجاه فى الصحيحين ، وقال صلى الله عليه وسلم فى حديث العرباض ابن سارية الذى رواه أهل السنن وصححه الترمذى‏:‏ ‏(‏إنه من يَعِشْ منكم بعدى فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومُحْدثَاتِ الأمور، فإن كل بدْعَةٍ ضَلالة‏)‏‏.‏ وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم وغيره أنه كان يقول فى خطبته‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدىُ محمد، وشَرُّ الأمور محدثاتُها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏
وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه فى نحو من أربعين موضعا من القرآن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏80‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64، 65‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏32‏]‏ ،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببًا لمحبة الله عبده، وقد قال تعالى‏:‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، فما أوحاه الله إليه يهدى الله به من يشاء من عباده، كما أنه صلى الله عليه وسلم بذلك هداه الله تعالى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏ المائدة ‏:‏15، 16‏]‏ ‏.‏
فبمحمد صلى الله عليه وسلم تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغى من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار، وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من سبيل المغضوب عليهم والضالين ‏.‏
فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت فى الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب‏.‏
فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته فى معرفة ما جاء به وطاعته؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة فى دار النعيم‏.‏ والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذ لا يكفى من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدى إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة، فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسوله واجبًا على جميع الأنام‏.‏
والله سبحانه بعث محمدًا بالكتاب والسنة، وبهما أتم على أمته المنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150، 152‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2‏]‏‏.‏
وقال تعالى عن الخليل ‏:‏‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، وقد قال غير واحد من العلماء، منهم يحيى ابن أبى كثير وقتادة والشافعى وغيرهم‏:‏ ‏{‏الًحٌكًمّة‏}‏‏:‏ هى السنة، لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى فى بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب‏:‏ القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة‏.‏
وقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما أنه قال‏:‏ ‏(‏لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيتُ عنه فيقول‏:‏ بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه‏)‏‏.‏وفي رواية‏:‏ ‏(‏ألا وإنه مثل الكتاب‏)‏‏.‏
ولما كان القرآن متميزًا بنفسه لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ وكان منقولا بالتواتر لم يطمع أحد في تغيير شىء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد‏.‏
فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بَيِّن الحق من البهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان ‏.‏
وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي، الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي، الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول‏.‏
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله‏.‏ كما جعل البيت مثابة للناس وأمنًا، يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورًا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدى المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق، الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون ‏.‏
فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله، كان من أولياء الله المتقين، أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏:‏ 64‏]‏ ‏.‏
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين‏:‏
أحدهما‏:‏ ثناء المثنين عليه‏.‏
الثاني‏:‏ الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له‏.‏
فقيل‏:‏ يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تلك عاجل بشرى المؤمن‏)‏‏.‏ وقال البراء بن عازب‏:‏ سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }‏ فقال‏:‏ ‏(‏هى الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له‏)‏
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الربان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم من أعظم أولياء اللّه المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ يرفع الله ‏[‏الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات‏]‏‏.‏
وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سُلَّمًا إلى الدراية‏.‏ فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم‏.‏
وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل‏.‏
وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المين، كما يظهر الصبح لذي عينين‏.‏ عصمهم الله أن يجمعوا على خطأ في دين الله معقول أو منقول، وأمرهم إذا تنازعوا في شىء أن يردوه إلى الله والرسول، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏
‏.‏
فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكم لم يكن إلا حقا، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديث لم يكن إلا صدقًا، ولكل من الطائفتين من الاستدلال، على مطلوبهم بالجلي والخفي ما يعرف به من هو بهذا الأمر حَفىّ، واللّه تعالى يلهمهم الصواب في هذه القضية، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، وكما عرف ذلك بالتجربة الوجودية، فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، لما صدقوا في موالاة الله ورسوله، ومعاداة من عدل عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وأهل العلم المأثور عن الرسول أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه، عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏8‏]‏‏.‏ ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من السعي المشكور، والعمل المبرور،ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات‏:‏ منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه، والمعرفة بمعانيه‏.‏
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن يبلِّغ عنه من شهد لمن غاب، ودعا للمبلغين بالدعاء المستجاب، فقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏.‏ وقال أيضًا في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع‏)‏
وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏نَضَّر اللّه امرأ سمع منا حديثًا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلب مسلم‏:‏ إخلاص العمل للّه، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏‏.‏
وفى هذا دعاء منه لمن بلغ حديثه وإن لم يكن فقيها، ودعاء لمن بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ، لما أعطى المبلغون من النضرة، ولهذا قال سفيان بن عيينة‏:‏ لا تجد أحدًا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقال‏:‏ نضُرَ، ونَضَرَ، والفتح أفصح‏.‏
ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث، حتى قال الشافعى رضى الله عنه‏:‏ إذا رأيتُ رجلا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما قال الشافعي هذا، لأنه في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الشافعى أيضًا‏:‏ أهل الحديث حفظوا، فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا‏.‏ اه‏.‏
توحيد الألوهية
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى‏:‏
قاعدة فى الجماعة والفرقة، وسبب ذلك ونتيجته
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 13‏]‏
أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذى أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولو العزم المأخوذ عليهم الميثاق فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ‏}‏، فجاء فى حق محمد باسم ‏{‏الَّذٌي‏}‏ وبلفظ الإيحاء، وفى سائر الرسل بلفظ ‏(‏الوصية‏)‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏‏.‏ وهذا تفسير الوصية،و‏{‏أّنً‏}‏‏:‏ المفسرة التى تأتى بعد فعل من معنى القول لا من لفظه،كما فى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏، ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 131‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ قلنا لهم‏:‏ اتقوا الله‏.‏ فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فى معنى‏:‏ قال لكم من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا‏:‏ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، فالمشروع لنا هو الموصى به، والموحى، وهو‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد، فقد يقال‏:‏ الضمير فى ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏ عائد إلينا‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى المرسل‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى الجميع‏.‏ وهذا أحسن‏.‏ ونظيره‏:‏ أمرتك بما أمرت به زيدًا، أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بنى فلان، أن افعلوا‏.‏ فعلى الأول‏:‏ يكون بدلا من ‏{‏مّا‏}‏ أى شرع لكم ‏{‏أّنً أّقٌيمٍوا‏}‏ وعلى الثانى‏:‏ شرع ‏{‏مّا‏}‏ خاطبهم‏.‏ ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏، فهو بدل أيضًا، وذكر ما قيل للأولين‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ شرع الموصى به ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏‏.‏
فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، عُلم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعًا‏.‏ وهذا أصح إن شاء الله‏.‏ والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذى شرع لنا، هو الذى وصى به الرسل‏.‏ وهو الأمر بإقامة الدين، والنهى عن التفرق فيه، ولكن التردد فى أن الضمير تناولهم لفظه، وقد عُلم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعا ‏.‏
وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين، بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا، والذى أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التى تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه، من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به، من إقامة الدين، وترك التفرق فيه‏.‏ والدين الذى اتفقوا عليه‏:‏ هو الأصول‏.‏ فتضمن الكلام أشياء ‏:‏
أحدها‏:‏ أنه شرع لنا الدين المشترك، وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا، وهو الإسلام، والإيمان الخاص‏.‏
الثانى‏:‏ أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك، والمختص، ونهانا عن التفرق فيه‏.‏
الثالث‏:‏ أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه‏.‏
الرابع‏:‏ أنه لما فصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ بين قوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ أفاد ذلك ‏.‏
ثم قال بعد ذلك‏:‏‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏ فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجىء العلم، الذى بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏.‏ وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا، والبغى مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر ‏.‏‏.‏‏.‏ الكبر والحسد، وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغى، كتنازع العلماء السائغ، والبغى إما تضييع للحق، وإما تَعَدّ للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم؛ فعلم أن موجب التفرق هو ذلك‏.‏
وهذا كما قال عن أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏14‏]‏، فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذُكروا به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع فى أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة فى أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العبَّاد؛ ممن يغلب عليه الموسوية


/*/*/*/

يتبع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:03 am

نكمل بسم الله



توحيد الألوهية


توحيد الألوهية
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى‏:‏
قاعدة فى الجماعة والفرقة، وسبب ذلك ونتيجته
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 13‏]‏
أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذى أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولو العزم المأخوذ عليهم الميثاق فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ‏}‏، فجاء فى حق محمد باسم ‏{‏الَّذٌي‏}‏ وبلفظ الإيحاء، وفى سائر الرسل بلفظ ‏(‏الوصية‏)‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏‏.‏ وهذا تفسير الوصية،و‏{‏أّنً‏}‏‏:‏ المفسرة التى تأتى بعد فعل من معنى القول لا من لفظه،كما فى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏، ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 131‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ قلنا لهم‏:‏ اتقوا الله‏.‏ فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فى معنى‏:‏ قال لكم من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا‏:‏ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، فالمشروع لنا هو الموصى به، والموحى، وهو‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد، فقد يقال‏:‏ الضمير فى ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏ عائد إلينا‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى المرسل‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى الجميع‏.‏ وهذا أحسن‏.‏ ونظيره‏:‏ أمرتك بما أمرت به زيدًا، أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بنى فلان، أن افعلوا‏.‏ فعلى الأول‏:‏ يكون بدلا من ‏{‏مّا‏}‏ أى شرع لكم ‏{‏أّنً أّقٌيمٍوا‏}‏ وعلى الثانى‏:‏ شرع ‏{‏مّا‏}‏ خاطبهم‏.‏ ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏، فهو بدل أيضًا، وذكر ما قيل للأولين‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ شرع الموصى به ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏‏.‏
فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، عُلم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعًا‏.‏ وهذا أصح إن شاء الله‏.‏ والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذى شرع لنا، هو الذى وصى به الرسل‏.‏ وهو الأمر بإقامة الدين، والنهى عن التفرق فيه، ولكن التردد فى أن الضمير تناولهم لفظه، وقد عُلم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعا ‏.‏
وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين، بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا، والذى أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التى تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه، من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به، من إقامة الدين، وترك التفرق فيه‏.‏ والدين الذى اتفقوا عليه‏:‏ هو الأصول‏.‏ فتضمن الكلام أشياء ‏:‏
أحدها‏:‏ أنه شرع لنا الدين المشترك، وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا، وهو الإسلام، والإيمان الخاص‏.‏
الثانى‏:‏ أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك، والمختص، ونهانا عن التفرق فيه‏.‏
الثالث‏:‏ أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه‏.‏
الرابع‏:‏ أنه لما فصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ بين قوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ أفاد ذلك ‏.‏
ثم قال بعد ذلك‏:‏‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏ فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجىء العلم، الذى بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏.‏ وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا، والبغى مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر ‏.‏‏.‏‏.‏ الكبر والحسد، وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغى، كتنازع العلماء السائغ، والبغى إما تضييع للحق، وإما تَعَدّ للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم؛ فعلم أن موجب التفرق هو ذلك‏.‏
وهذا كما قال عن أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏14‏]‏، فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذُكروا به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع فى أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة فى أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العبَّاد؛ ممن يغلب عليه الموسوية، أو العيسوية، حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة‏:‏ ليست الأخرى على شىء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفى طريقة الآخر، ويدعى أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء‏.‏
وذلك‏:‏ أن الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذى أمر الله به وأوجبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏108‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏222‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏103‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏33‏]‏‏.‏
فنجد كثيرًا من المتفقهة، والمتعبدة، إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع؛ اهتماما، وعملا‏.‏ ويترك من طهارة القلب ما أمر به، إيجابًا، أو استحبابًا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك‏.‏ ونجد كثيرًا من المتصوفة، والمتفقرة، إنما همته طهارة القلب فقط، حتى يزيد فيها على المشروع، اهتماما وعملا‏.‏ ويترك من طهارة البدن ما أمر به، إيجابا، أو استحبابًا‏.‏
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة فى كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكِبْر، والغِلِّ لإخوانهم، وفى ذلك مشابهة بَيِّنةٌ لليهود‏.‏
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون فى سلامة الباطن حتى يجعلوا الجهل بما تجب معرفته، من الشر الذى يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهى عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى‏.‏
وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغى الذى هو مجاوزة الحد؛ إما تفريطًا وتضييعًا للحق، وإما عدوانًا وفعلا للظلم‏.‏ والبغى تارة تكون من بعضهم على بعض، وتارة يكون فى حقوق الله، وهما متلازمان ولهذا قال‏:‏ ‏{‏بّغًيْا بّيًنّهٍمً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى، فلم تعرف حقها الذى بأيديها، ولم تَكُفَّ عن العدوان عليها‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏16‏]‏، وقال تعالى فى موسى بن عمران مثل ذلك، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 951‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30- 32‏]‏، لأن المشركين كل منهم يعبد إلها يَهْواه‏.‏ كما قال فى الآية الأولى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏‏[‏المؤمنون‏:‏ 51-53‏]‏
فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنا، وظاهرا‏.‏
وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم‏.‏
ونتيجة الجماعة رحمة اللّه، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه‏.‏
ونتيجة الفرقة عذاب اللّه، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم‏.‏
وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعةٌ لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد، أو قول، أو عمل‏.‏ فلو كان القول، أو العمل، الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة للّه، ولا سببا لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول ‏[‏التنبيه‏]‏ نبه على هذه النكتة‏.‏
وقال ‏:‏
فَصْل
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهى الصحابة، عبد اللّه بن مسعود، وزيد بن ثابت‏:‏ ‏(‏ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلبُ مسلم‏:‏ إخلاص العمل للّه، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي هريرة المحفوظ‏:‏ ‏(‏إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لكم ثلاثا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تَعْتَصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تَنَاصَحوا من ولاَّه الله أمركم‏)‏
فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث، إخلاص العمل للّه، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين‏.‏ وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي للّه ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة‏.‏
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان‏:‏ حق للّه، وحق لعباده‏.‏ فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل للّه، كما جاء في الحديث الآخر‏.‏ وحقوق العباد قسمان‏:‏ خاص وعام؛ أما الخاص فمثل‏:‏ برّ كل إنسان والديه، وحق زوجته، وجاره، فهذه من فروع الدين، لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية ‏.‏
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان‏:‏ رعاة ورعية؛ فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل اللّه جميعا، فهذه الخصال تجمع أصول الدين‏.‏
وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تَمِيم الدَّارِىّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ لمن يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏للّه، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم‏)‏‏.‏ فالنصيحة للّه ولكتابه ولرسوله تدخل في حق اللّه وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتَعذَّر استيعابها على سبيل التعيين‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:05 am

قال شيخ الإسلام: قاعدة فى الجماعة والفرقة

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى‏:‏
قاعدة فى الجماعة والفرقة، وسبب ذلك ونتيجته
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 13‏]‏
أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحا، والذى أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولو العزم المأخوذ عليهم الميثاق فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ‏}‏، فجاء فى حق محمد باسم ‏{‏الَّذٌي‏}‏ وبلفظ الإيحاء، وفى سائر الرسل بلفظ ‏(‏الوصية‏)‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏‏.‏ وهذا تفسير الوصية،و‏{‏أّنً‏}‏‏:‏ المفسرة التى تأتى بعد فعل من معنى القول لا من لفظه،كما فى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏، ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 131‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ قلنا لهم‏:‏ اتقوا الله‏.‏ فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فى معنى‏:‏ قال لكم من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا‏:‏ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، فالمشروع لنا هو الموصى به، والموحى، وهو‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد، فقد يقال‏:‏ الضمير فى ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏ عائد إلينا‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى المرسل‏.‏ ويقال‏:‏ هو عائد إلى الجميع‏.‏ وهذا أحسن‏.‏ ونظيره‏:‏ أمرتك بما أمرت به زيدًا، أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بنى فلان، أن افعلوا‏.‏ فعلى الأول‏:‏ يكون بدلا من ‏{‏مّا‏}‏ أى شرع لكم ‏{‏أّنً أّقٌيمٍوا‏}‏ وعلى الثانى‏:‏ شرع ‏{‏مّا‏}‏ خاطبهم‏.‏ ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏، فهو بدل أيضًا، وذكر ما قيل للأولين‏.‏ وعلى الثالث‏:‏ شرع الموصى به ‏{‏أّقٌيمٍوا‏}‏‏.‏
فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، عُلم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعًا‏.‏ وهذا أصح إن شاء الله‏.‏ والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذى شرع لنا، هو الذى وصى به الرسل‏.‏ وهو الأمر بإقامة الدين، والنهى عن التفرق فيه، ولكن التردد فى أن الضمير تناولهم لفظه، وقد عُلم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعا ‏.‏
وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين، بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا، والذى أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التى تختص بنا؛ فإن جميع ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم قد أوحاه إليه، من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به، من إقامة الدين، وترك التفرق فيه‏.‏ والدين الذى اتفقوا عليه‏:‏ هو الأصول‏.‏ فتضمن الكلام أشياء ‏:‏
أحدها‏:‏ أنه شرع لنا الدين المشترك، وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا، وهو الإسلام، والإيمان الخاص‏.‏
الثانى‏:‏ أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك، والمختص، ونهانا عن التفرق فيه‏.‏
الثالث‏:‏ أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه‏.‏
الرابع‏:‏ أنه لما فصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ بين قوله‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ أفاد ذلك ‏.‏
ثم قال بعد ذلك‏:‏‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏ فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجىء العلم، الذى بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏.‏ وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيا، والبغى مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر ‏.‏‏.‏‏.‏ الكبر والحسد، وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغى، كتنازع العلماء السائغ، والبغى إما تضييع للحق، وإما تَعَدّ للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم؛ فعلم أن موجب التفرق هو ذلك‏.‏
وهذا كما قال عن أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏14‏]‏، فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذُكروا به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع فى أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة فى أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العبَّاد؛ ممن يغلب عليه الموسوية، أو العيسوية، حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة‏:‏ ليست الأخرى على شىء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفى طريقة الآخر، ويدعى أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء‏.‏
وذلك‏:‏ أن الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذى أمر الله به وأوجبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏108‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏222‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏103‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏33‏]‏‏.‏
فنجد كثيرًا من المتفقهة، والمتعبدة، إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع؛ اهتماما، وعملا‏.‏ ويترك من طهارة القلب ما أمر به، إيجابًا، أو استحبابًا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك‏.‏ ونجد كثيرًا من المتصوفة، والمتفقرة، إنما همته طهارة القلب فقط، حتى يزيد فيها على المشروع، اهتماما وعملا‏.‏ ويترك من طهارة البدن ما أمر به، إيجابا، أو استحبابًا‏.‏
فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة فى كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكِبْر، والغِلِّ لإخوانهم، وفى ذلك مشابهة بَيِّنةٌ لليهود‏.‏
والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون فى سلامة الباطن حتى يجعلوا الجهل بما تجب معرفته، من الشر الذى يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهى عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى‏.‏
وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغى الذى هو مجاوزة الحد؛ إما تفريطًا وتضييعًا للحق، وإما عدوانًا وفعلا للظلم‏.‏ والبغى تارة تكون من بعضهم على بعض، وتارة يكون فى حقوق الله، وهما متلازمان ولهذا قال‏:‏ ‏{‏بّغًيْا بّيًنّهٍمً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى، فلم تعرف حقها الذى بأيديها، ولم تَكُفَّ عن العدوان عليها‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏16‏]‏، وقال تعالى فى موسى بن عمران مثل ذلك، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 951‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30- 32‏]‏، لأن المشركين كل منهم يعبد إلها يَهْواه‏.‏ كما قال فى الآية الأولى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏‏[‏المؤمنون‏:‏ 51-53‏]‏
فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنا، وظاهرا‏.‏
وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم‏.‏
ونتيجة الجماعة رحمة اللّه، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه‏.‏
ونتيجة الفرقة عذاب اللّه، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم‏.‏
وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعةٌ لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد، أو قول، أو عمل‏.‏ فلو كان القول، أو العمل، الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة للّه، ولا سببا لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول ‏[‏التنبيه‏]‏ نبه على هذه النكتة‏.‏
وقال ‏:‏
فَصْل
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهى الصحابة، عبد اللّه بن مسعود، وزيد بن ثابت‏:‏ ‏(‏ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلبُ مسلم‏:‏ إخلاص العمل للّه، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي هريرة المحفوظ‏:‏ ‏(‏إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لكم ثلاثا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تَعْتَصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تَنَاصَحوا من ولاَّه الله أمركم‏)‏
فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث، إخلاص العمل للّه، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين‏.‏ وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي للّه ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة‏.‏
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان‏:‏ حق للّه، وحق لعباده‏.‏ فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل للّه، كما جاء في الحديث الآخر‏.‏ وحقوق العباد قسمان‏:‏ خاص وعام؛ أما الخاص فمثل‏:‏ برّ كل إنسان والديه، وحق زوجته، وجاره، فهذه من فروع الدين، لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية ‏.‏
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان‏:‏ رعاة ورعية؛ فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل اللّه جميعا، فهذه الخصال تجمع أصول الدين‏.‏
وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تَمِيم الدَّارِىّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ لمن يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏للّه، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم‏)‏‏.‏ فالنصيحة للّه ولكتابه ولرسوله تدخل في حق اللّه وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتَعذَّر استيعابها على سبيل التعيين‏.‏













السابق
الآيات القرآنية
الفهرس
التالي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:09 am

قاعدة جليلة في توحيد الله

وقال شيخ الإسلام قَدسَ اللَّه روحه‏:‏
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما‏.‏
وبعد‏:‏ فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏17‏]‏، وقال تعالى فى الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهٌِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏107‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏:‏88‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التغابن ‏:‏1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ٍقُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏ ،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏88‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ الآية ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.‏ ونظائر هذا فى القرآن كثير، وكذلك فى الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولاسيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع‏.‏
ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة ‏.‏
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلابد له من أمرين‏:‏
أحدهما‏:‏ هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به‏.‏
والثاني‏:‏ هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه‏.‏ وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء ‏:‏
أحدها‏:‏ أمر محبوب مطلوب الوجود ‏.‏
الثاني‏:‏ أمر مكروه مبغض مطلوب العدم‏.‏
والثالث‏:‏ الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب‏.‏
والرابع‏:‏ الوسيلة إلى دفع المكروه‏.‏
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر‏.‏
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول‏:‏ من معنى الألوهية‏.‏ والثاني‏:‏ من معنى الربوبية؛ إذ الإله‏:‏ هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكرامًا‏.‏ والرب‏:‏ هو الذى يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها‏.‏
وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏:‏88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏58‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}‏ ‏[‏الرعد‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين‏.‏
الوجه الثإني‏:‏ أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته فى الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شىء يعطيهم فى الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شىء يعطيهم فى الدنيا أعظم من الإيمان به ‏.‏
وحاجتهم إليه فى عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم فى خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال‏.‏ بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى‏.‏
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول‏:‏ لا إله إلا الله، رأس الأمر‏.‏
فأما توحيد الربوبية الذى أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفى وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى‏:‏ ‏(‏يابن آدم، خلقت كل شىء لك، وخلقتك لى، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له‏)‏‏.‏
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما فى الحديث الصحيح، الذى رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أتدرى ما حق الله على عباده‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا‏.‏ أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حقهم ألا يعذبهم‏)‏
وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع‏.‏
فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة فى الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم،{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}‏‏[‏الأنبياء‏:‏22‏]‏، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية‏.‏
وأما من جهة الربوبية فشىء آخر؛ كما نقرره فى موضعه‏.‏
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة‏.‏
فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذى لا إله إلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه‏.‏
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا فى وقت وفى بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك‏.‏
وأما إلهه فلابد له منه فى كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا ‏[‏إبراهيم‏]‏ الخليل صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏76‏]‏‏.‏ وكان أعظم آية فى القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقد بسطت الكلام فى معنى ‏[‏القيوم‏]‏ فى موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقى الذى لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه‏.‏
واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم‏:‏ إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان فى الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏120‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏(‏أجرك على قدر نصبك‏)‏ فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعى، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر فى موضعه‏.‏
ولهذا لم يجئ فى الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح‏:‏ أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف فى موضع النفى، كقوله‏:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ‏{لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}‏ ‏[‏النساء‏:‏84‏]‏، ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏7‏]‏ أى‏:‏ وإن وقع فى الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفًا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذى تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه فى ذلك أبدًا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ فهذا أصل‏.‏
الأصل الثإني‏:‏ النعيم فى الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق‏:‏ من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما فى الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك فى غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة‏)‏‏.‏ رواه النسائى، وغيره‏.‏ وفى صحيح مسلم وغيره، عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه‏.‏ فيقولون‏:‏ ما هو‏؟‏‏!‏ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار‏؟‏‏!‏ قال فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه‏)‏، وهو الزيادة‏.‏
فبين النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره‏.‏ فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشىء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم‏.‏ وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفى الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى فى حق الكفار‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ }‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى‏.‏
وهذان الأصلان ثابتان فى الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التى فطر الناس عليها‏.‏
وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفى إنكارها‏.‏ وقد يحتجون بالقياس فى الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول‏.‏
فهذا الوجه يقتضى‏:‏ التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه‏.‏ ويقتضى أيضا‏:‏ محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول‏.‏ ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه‏.‏
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته فى عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلابد أن يسأمه، أو يفارقه‏.‏ وفى الأثر المأثور‏:‏ ‏(‏أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان‏)‏ ‏(‏واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته‏.‏ يقول‏:‏ أنا كنزك، أنا مالك‏.‏
وكذلك نظائر هذا فى الحديث‏:‏ ‏(‏يقول الله يوم القيامة‏:‏ يابن آدم، أليس عدلا منى أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه فى الدنيا‏؟‏‏)‏‏.‏ وأصل التَّولِّى الحب؛ فكل من أحب شيئًا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء‏.‏ وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفى الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه‏)‏‏.‏ رواه الترمذى، وغيره ‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏:‏ 82‏]‏‏.‏
وهذان الوجهان فى المخلوقات نظير العبادة والاستعانة فى المخلوق، فلما قال‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ كان صلاح العبد فى عبادة الله واستعانته‏.‏ وكان فى عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه، مضرته وهلاكه وفساده‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أن الله سبحانه غنى، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله‏.‏ فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك‏.‏
وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء أو الثناء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون فى نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه‏.‏ وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا‏.‏
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ‏.‏
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة‏.‏ فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه‏.‏ ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله، وارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وكن ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 17-20 ‏]‏ وقال فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏‏.‏
الوجه السابع‏:‏ أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها‏.‏
الوجه الثامن‏:‏ أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم فى ذلك‏.‏
الوجه التاسع‏:‏ أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20-21‏]‏‏.‏ والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏، وقال الخليل عليه السلام ‏:‏ ‏{رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم‏)‏‏:‏ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم‏؟‏
فَصْل
جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغى، فغيرك من الناس أولى ألا يكون عالما بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدا لها، والله سبحانه هو الذى يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما فى حديث الاستخارة‏:‏ ‏(‏اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب‏)‏‏.‏
فَصْل
وهو مثل المقدمة لهذا الذى أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته‏.‏ والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولابد فى العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلابد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلابد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلابد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلابد لكل حى من إرادة، ولابد لكل مريد من عون يحصل به مراده‏.‏
فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى فى حق كل إنسان يجده فى نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين‏:‏
منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه‏.‏ والمستعان‏:‏ منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذى يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض‏.‏ ومن المستعان ما يكون هو الغاية التى يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية فى الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع‏.‏
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين‏:‏ لابد للنفس من شىء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها‏.‏ ولابد لها من شىء تثق به وتعتمد عليه فى نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا‏.‏ مثل‏:‏ عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم فى النوائب‏.‏
وقد يكون خاصًا فى المسلمين، مثل‏:‏ من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدرهم ‏!‏ تعس عبد الدينار‏!‏ تعس عبد الخميصة‏!‏ تعس عبد الخميلة‏!‏‏:‏ إن أعطى رضي، وإن منع سخط‏!‏ تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏)‏، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التى تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول‏.‏
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب فى رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان‏.‏
وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه ،وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران‏.‏
فإذا علم أن العبد لابد له فى كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه وذلك هو صمده الذى يصمد إليه فى استعانته وعبادته تبين أن قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ كلام جامع محيط أولا وآخرًا،لا يخرج عنه شىء، فصارت الأقسام أربعة‏:‏
إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلما فالشرك فى هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل‏.‏
وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ‏.‏
وإما أن يستعينه وإن عبد غيره مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التى بعث الله بها رسوله ‏.‏
والقسم الرابع‏:‏ الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لابد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام ‏.‏
وقال شيخ الإسلام‏:‏
فصل
فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذى ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره‏.‏ ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20-21‏]‏
وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه؛ إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:11 am

فَصْل:فَصْل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين

فَصْل
وهو مثل المقدمة لهذا الذى أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته‏.‏ والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولابد فى العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلابد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلابد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلابد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلابد لكل حى من إرادة، ولابد لكل مريد من عون يحصل به مراده‏.‏
فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى فى حق كل إنسان يجده فى نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين‏:‏
منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه‏.‏ والمستعان‏:‏ منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذى يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض‏.‏ ومن المستعان ما يكون هو الغاية التى يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية فى الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع‏.‏
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين‏:‏ لابد للنفس من شىء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها‏.‏ ولابد لها من شىء تثق به وتعتمد عليه فى نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا‏.‏ مثل‏:‏ عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم فى النوائب‏.‏
وقد يكون خاصًا فى المسلمين، مثل‏:‏ من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدرهم ‏!‏ تعس عبد الدينار‏!‏ تعس عبد الخميصة‏!‏ تعس عبد الخميلة‏!‏‏:‏ إن أعطى رضي، وإن منع سخط‏!‏ تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏)‏، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التى تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول‏.‏
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب فى رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان‏.‏
وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه ،وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران‏.‏
فإذا علم أن العبد لابد له فى كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه وذلك هو صمده الذى يصمد إليه فى استعانته وعبادته تبين أن قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ كلام جامع محيط أولا وآخرًا،لا يخرج عنه شىء، فصارت الأقسام أربعة‏:‏
إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلما فالشرك فى هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل‏.‏
وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ‏.‏
وإما أن يستعينه وإن عبد غيره مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التى بعث الله بها رسوله ‏.‏
والقسم الرابع‏:‏ الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لابد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام ‏.‏
وقال شيخ الإسلام‏:‏
فصل
فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذى ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره‏.‏ ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20-21‏]‏
وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه؛ إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغنى عن العالمين ‏{‏وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏.‏
وفى الحديث الصحيح الإلهى‏:‏ ‏(‏يا عبادى لو أن أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا، ولو قاموا فى صعيد واحد فسألونى، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا‏)‏ إلى آخر الحديث ‏.‏
فالرب سبحانه غنى بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر فى شىء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله‏:‏ كَمُلَ فَفَعل، وإحسانه وجُودُه من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كُل ما يريده فعله، فإنه فعال لما يريد‏.‏ وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج فى شىء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولى من الذل‏.‏
فصل
والعبد كلما كان أذل للّه وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله‏.‏ وأما المخلوق فكما قيل‏:‏ احتج إلى من شئت تكن أسِيرهُ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل‏:‏
بين التذلل والتدلل نقطة ** فى رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ** فافهم يا فتى بالخلف
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق، إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو فى شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شىء‏.‏
ولهذا قال حاتم الأصم لما سئل‏:‏ فيم السلامة من الناس‏؟‏ قال‏:‏ أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك‏.‏
فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه‏.‏ والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون فى أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم ‏؟‏ ‏!‏ فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة‏.‏ والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شىء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شىء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغى لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذى يعمل لمصلحته التى هى مصلحة،لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك‏.‏ فهم ثلاثة أصناف‏:‏ ظالم، وعادل، ومحسن‏.‏
فالظالم‏:‏ الذى يأخذ منك مالا أو نفعًا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك‏.‏
والعادل‏:‏ المكافئ‏.‏ كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين‏.‏
والمحسن‏:‏ الذى يحسن لا لعوض يناله منك‏.‏ فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق، وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك‏.‏ وبكل حال‏:‏ ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع‏.‏ وسائر الخلق، إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بنى أمر العالم‏.‏ وإما بطريق الإحسان منك إليهم‏.‏ فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم فى الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم‏.‏
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيدًا مطاعًا، وهو فى الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذى أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم، نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك‏.‏
والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافئا له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته ‏:‏ ‏(‏الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏)‏ رواه البخارى من حديث أبى أمامة‏.‏ بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له فى ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد فى كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أى بموجب علمه ذلك‏.‏ فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق فى جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله ‏.‏
الإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه، وليس أحد غنيًا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغنى عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بسط هذا فى مواضع‏.‏
والإنسان يذنب دائما، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلا، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، والمراد بالسيئات‏:‏ ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات‏:‏ ما يسره من النعم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلا وجودًا، من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان تعالى عليه حق لعباده، فلذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا فى مواضع‏.‏
والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ والنعم، وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذى خلق العبد وجعله مسلما طائعا، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏128‏]‏، وقال ‏:‏‏{‏اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 40‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏، فسأل ربه أن يجعله مسلما وأن يجعله مقيم الصلاة، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏، قال فى آخرها‏:‏ ‏{‏فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 8 ‏]‏‏.‏
وفى صحيح أبى داود وابن حبان‏:‏ ‏(‏اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا‏)‏ ، وفى الفاتحة‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6 ‏]‏ وفى الدعاء الذى رواه الطبرإني عن ابن عباس قال‏:‏ مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة‏:‏ ‏(‏اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكإني، وتعلم سِرّى وعلانيتى، ولا يخفى عليك شىء من أمرى، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوَجِل ‏[‏أى‏:‏ الخائف‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة ‏"‏ وجل‏"‏‏]‏ المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورَغِمَ لك أنفسه، اللّهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين‏)‏‏.‏
ولفظ العبد فى القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله‏:‏ ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ و ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏30، 44‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏41‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏ الكهف‏:‏ 65‏]‏، ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏23‏]‏، ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏}‏ ‏[‏ النجم‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ‏[‏ الجن‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ونحو هذا كثير‏.‏ وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 194‏]‏، ‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 102‏]‏ قد يقال فى هذا‏:‏ إن المراد به الملائكة، والأنبياء، إذا كان قد نهى اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 93‏]‏ ‏.‏
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم فى الدَّجَّال‏:‏ ‏(‏فيوحى الله إلى المسيح أن لى عبادًا لا يَدَان لأحد بقتالهم‏)‏ ، وهذا كقوله‏:‏ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدُونَ، مُذَللونَ، مقهورون، يجرى عليهم قدره‏.‏
وقد يكون كونهم عبيدًا‏:‏ هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏ 106 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم ‏:‏93 ‏]‏ أى‏:‏ ذليلاً خاضعا‏.‏ ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان فى الدنيا، ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏94، 95‏]‏، فذكر بعدها أنه يأتى منفردًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏، ‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏ 15 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 116 ‏]‏، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعا وكرها، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له‏:‏ ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون، قانتون مضطرون من وجوه‏:‏
منها‏:‏ علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه ‏.‏ومنها‏:‏دعاؤهم إياه عند الاضطرار‏.‏
ومنها‏:‏ خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته‏.‏ ومنها‏:‏ انقيادهم لكثير مما أمر به فى كل شىء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذى يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له فى بعض ما أمر به وإن كان هو التوحيد لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذى بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه فى أمور‏.‏
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شىء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب‏.‏
وأما فقر المخلوقات إلى الله بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شىء من صفاتها، وأفعالها إلا به فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد‏.‏
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق ‏.‏
والصواب‏:‏ أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غنى، فهو غنى بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه‏:‏ أنه لا يوجد إلا بالخالق‏.‏ هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف ‏.‏
ولكن طائفة تدعى أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها، وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله‏.‏ وقل للأرض‏:‏ من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالى وغيره، وهو أحد الوجوه التى ذكرها أبو بكر بن الأنبارى فى قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 116 ‏]‏ قال‏:‏ كل مخلوق قانت له باشر صنعت فيه وجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه، وهو الذى ذكره الزجاج فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 83 ‏]‏ قال‏:‏ إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره فى جِبِلِّهم، لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب الذى عليه جمهور علماء السلف والخلف ‏:‏ أن القنوت، والاستسلام، والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم‏:‏ إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قال‏:‏ تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحا من غيره ،والصواب‏:‏ أن لها تسبيحا وسجودا بحسبها ‏.‏
والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها، له أمر فِطْرِىّ فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بسط الكلام على هذا فى مواضع، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولى، والتمثيلى، فإن القياس البرهإني العقلى، سواء صيغ بلفظ الشمول، كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبين أن الجامع هو علة الحكمة ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين فى غير هذا الموضع ‏.‏
والتحقيق‏:‏ أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث هو علم فطرى، ضرورى فى المعينات الجزئية، وأبلغ مما هو فى القضية الكلية، فإن الكليات إنما تصير كليات فى العقل بعد استقرار جزئياتها فى الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية، التى يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم‏:‏ الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية ونحو ذلك، فإنه أىّ كلى تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما‏:‏ الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أى شىء كان وعدمه، علم أن ذلك الشىء لا يكون موجودا معدوما فى حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضى بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك ‏.‏
ولما كان القياس الكلى فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل لعله فى الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذى يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التى لا كمال فيها، فالبارى تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذى لا نقص فيه كالحياة، والعلم، والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس‏:‏ أن الآية تدل على عين المطلوب الذى هو آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل، وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه فى مواضع‏.‏
ثم الفِطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة علىه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلابد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضى تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلابد فى ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلا، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلابد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له ‏.‏
والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية، هى التى جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأى والسمع ‏.‏
والمتفلسفة كابن سينا والرازى ومن اتبعهما قالوا‏:‏ إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لابد له من واجب، قالوا‏:‏ والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين‏.‏ وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، ورَكَّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا، بل زعم أنه ممكن‏.‏ وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذَّاقُهُمْ عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بينا فى مواضع أن القِدَم، ووجوب الوجود، متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف على طائفة منهم نزاع فى ذلك، إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديمًا أزليًا‏.‏
ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس فى دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك، وهذا مما بيَّن تهافتهم فيه الغزالى وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبًا؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبًا، هذا عمدتهم ‏.‏
وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالى فساده بحسبه ‏.‏
وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان‏:‏ فيقال للموجود بنفسه الذى لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهى المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعى التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بسط القول عليه فى مواضع ‏.‏
والمقصود هنا الكلام أولاً فى أن سعادة العبد فى كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه؛ أى فى أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏، وفى الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏كَانَ يَؤُوسًا‏}‏ ‏[‏الإسراء 83‏]‏‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:13 am

فَصْل في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره

فَصْل
جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغى، فغيرك من الناس أولى ألا يكون عالما بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدا لها، والله سبحانه هو الذى يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما فى حديث الاستخارة‏:‏ ‏(‏اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب‏)‏‏.‏
فَصْل
وهو مثل المقدمة لهذا الذى أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته‏.‏ والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولابد فى العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلابد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلابد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلابد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلابد لكل حى من إرادة، ولابد لكل مريد من عون يحصل به مراده‏.‏
فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى فى حق كل إنسان يجده فى نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين‏:‏
منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه‏.‏ والمستعان‏:‏ منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذى يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض‏.‏ ومن المستعان ما يكون هو الغاية التى يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية فى الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع‏.‏
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين‏:‏ لابد للنفس من شىء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها‏.‏ ولابد لها من شىء تثق به وتعتمد عليه فى نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا‏.‏ مثل‏:‏ عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم فى النوائب‏.‏
وقد يكون خاصًا فى المسلمين، مثل‏:‏ من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدرهم ‏!‏ تعس عبد الدينار‏!‏ تعس عبد الخميصة‏!‏ تعس عبد الخميلة‏!‏‏:‏ إن أعطى رضي، وإن منع سخط‏!‏ تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش‏)‏، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التى تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول‏.‏
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب فى رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان‏.‏
وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه ،وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران‏.‏
فإذا علم أن العبد لابد له فى كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه وذلك هو صمده الذى يصمد إليه فى استعانته وعبادته تبين أن قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ كلام جامع محيط أولا وآخرًا،لا يخرج عنه شىء، فصارت الأقسام أربعة‏:‏
إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلما فالشرك فى هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل‏.‏
وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ‏.‏
وإما أن يستعينه وإن عبد غيره مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التى بعث الله بها رسوله ‏.‏
والقسم الرابع‏:‏ الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لابد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام ‏.‏
وقال شيخ الإسلام‏:‏
فصل
فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذى ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره‏.‏ ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20-21‏]‏
وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه؛ إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغنى عن العالمين ‏{‏وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏.‏
وفى الحديث الصحيح الإلهى‏:‏ ‏(‏يا عبادى لو أن أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا، ولو قاموا فى صعيد واحد فسألونى، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا‏)‏ إلى آخر الحديث ‏.‏
فالرب سبحانه غنى بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر فى شىء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله‏:‏ كَمُلَ فَفَعل، وإحسانه وجُودُه من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كُل ما يريده فعله، فإنه فعال لما يريد‏.‏ وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج فى شىء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولى من الذل‏.‏
فصل
والعبد كلما كان أذل للّه وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله‏.‏ وأما المخلوق فكما قيل‏:‏ احتج إلى من شئت تكن أسِيرهُ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل‏:‏
بين التذلل والتدلل نقطة ** فى رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ** فافهم يا فتى بالخلف
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق، إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم، كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو فى شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شىء‏.‏
ولهذا قال حاتم الأصم لما سئل‏:‏ فيم السلامة من الناس‏؟‏ قال‏:‏ أن يكون شيئك لهم مبذولاً وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك‏.‏
فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه‏.‏ والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون فى أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم ‏؟‏ ‏!‏ فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة‏.‏ والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شىء آخر جعله مريدًا راحمًا، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شىء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغى لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذى يعمل لمصلحته التى هى مصلحة،لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك‏.‏ فهم ثلاثة أصناف‏:‏ ظالم، وعادل، ومحسن‏.‏
فالظالم‏:‏ الذى يأخذ منك مالا أو نفعًا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك‏.‏
والعادل‏:‏ المكافئ‏.‏ كالبائع لا لك ولا عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين، والمتبايعين، والشريكين‏.‏
والمحسن‏:‏ الذى يحسن لا لعوض يناله منك‏.‏ فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق، وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك‏.‏ وبكل حال‏:‏ ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع‏.‏ وسائر الخلق، إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بنى أمر العالم‏.‏ وإما بطريق الإحسان منك إليهم‏.‏ فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم فى الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم‏.‏
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم، تجد أحدهم سيدًا مطاعًا، وهو فى الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذى أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم، نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك‏.‏
والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافئا له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته ‏:‏ ‏(‏الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏)‏ رواه البخارى من حديث أبى أمامة‏.‏ بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له فى ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله، وسعادة العبد فى كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أى بموجب علمه ذلك‏.‏ فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق فى جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله ‏.‏
الإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه، وليس أحد غنيًا بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغنى عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته، كما قد بسط هذا فى مواضع‏.‏
والإنسان يذنب دائما، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلا، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائما إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، والمراد بالسيئات‏:‏ ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات‏:‏ ما يسره من النعم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلا وجودًا، من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، وإن كان تعالى عليه حق لعباده، فلذلك الحق هو أحقه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد بسط هذا فى مواضع‏.‏
والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ والنعم، وإن كانت بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها، فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذى خلق العبد وجعله مسلما طائعا، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏128‏]‏، وقال ‏:‏‏{‏اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 40‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏، فسأل ربه أن يجعله مسلما وأن يجعله مقيم الصلاة، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏، قال فى آخرها‏:‏ ‏{‏فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 8 ‏]‏‏.‏
وفى صحيح أبى داود وابن حبان‏:‏ ‏(‏اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا‏)‏ ، وفى الفاتحة‏:‏ ‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6 ‏]‏ وفى الدعاء الذى رواه الطبرإني عن ابن عباس قال‏:‏ مما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة‏:‏ ‏(‏اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكإني، وتعلم سِرّى وعلانيتى، ولا يخفى عليك شىء من أمرى، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوَجِل ‏[‏أى‏:‏ الخائف‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة ‏"‏ وجل‏"‏‏]‏ المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورَغِمَ لك أنفسه، اللّهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين‏)‏‏.‏
ولفظ العبد فى القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله‏:‏ ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ و ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏30، 44‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏41‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا‏}‏ ‏[‏ الكهف‏:‏ 65‏]‏، ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏23‏]‏، ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏}‏ ‏[‏ النجم‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ‏[‏ الجن‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ونحو هذا كثير‏.‏ وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 194‏]‏، ‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 102‏]‏ قد يقال فى هذا‏:‏ إن المراد به الملائكة، والأنبياء، إذا كان قد نهى اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 93‏]‏ ‏.‏
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم فى الدَّجَّال‏:‏ ‏(‏فيوحى الله إلى المسيح أن لى عبادًا لا يَدَان لأحد بقتالهم‏)‏ ، وهذا كقوله‏:‏ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدُونَ، مُذَللونَ، مقهورون، يجرى عليهم قدره‏.‏
وقد يكون كونهم عبيدًا‏:‏ هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفارًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏ يوسف‏:‏ 106 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم ‏:‏93 ‏]‏ أى‏:‏ ذليلاً خاضعا‏.‏ ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان فى الدنيا، ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏94، 95‏]‏، فذكر بعدها أنه يأتى منفردًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏، ‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏ 15 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 116 ‏]‏، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعا وكرها، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له‏:‏ ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون، قانتون مضطرون من وجوه‏:‏
منها‏:‏ علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه ‏.‏ومنها‏:‏دعاؤهم إياه عند الاضطرار‏.‏
ومنها‏:‏ خضوعهم واستسلامهم لما يجرى عليهم من أقداره ومشيئته‏.‏ ومنها‏:‏ انقيادهم لكثير مما أمر به فى كل شىء، فإن سائر البشر لا يُمَكِّنُونَ العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذى يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له فى بعض ما أمر به وإن كان هو التوحيد لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذِّمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذى بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه فى أمور‏.‏
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما يقدره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا، فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصود الخضوع، وسجود كل شىء بحَسَبِه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب‏.‏
وأما فقر المخلوقات إلى الله بمعنى حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شىء من صفاتها، وأفعالها إلا به فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد‏.‏
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق ‏.‏
والصواب‏:‏ أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصفُ لازم له لا يمكن أن يكون غير غنى، فهو غنى بنفسه لا بوصف جعله غنيًا، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهى معدومة وهى موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر ينتظر نزوله وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه‏:‏ أنه لا يوجد إلا بالخالق‏.‏ هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف ‏.‏
ولكن طائفة تدعى أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها، وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله‏.‏ وقل للأرض‏:‏ من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالى وغيره، وهو أحد الوجوه التى ذكرها أبو بكر بن الأنبارى فى قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 116 ‏]‏ قال‏:‏ كل مخلوق قانت له باشر صنعت فيه وجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه، وهو الذى ذكره الزجاج فى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 83 ‏]‏ قال‏:‏ إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره فى جِبِلِّهم، لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب الذى عليه جمهور علماء السلف والخلف ‏:‏ أن القنوت، والاستسلام، والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم‏:‏ إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم فى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قال‏:‏ تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحا من غيره ،والصواب‏:‏ أن لها تسبيحا وسجودا بحسبها ‏.‏
والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها، له أمر فِطْرِىّ فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بسط الكلام على هذا فى مواضع، وبين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولى، والتمثيلى، فإن القياس البرهإني العقلى، سواء صيغ بلفظ الشمول، كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبين أن الجامع هو علة الحكمة ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين فى غير هذا الموضع ‏.‏
والتحقيق‏:‏ أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث هو علم فطرى، ضرورى فى المعينات الجزئية، وأبلغ مما هو فى القضية الكلية، فإن الكليات إنما تصير كليات فى العقل بعد استقرار جزئياتها فى الوجود، وكذلك عامة القضايا الكلية، التى يجعلها كثير من النظار المتكلمة والمتفلسفة أصول علمهم، كقولهم‏:‏ الكل أعظم من الجزء، أو النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية ونحو ذلك، فإنه أىّ كلى تصوره الإنسان علم أنه أعظم من جزئيه، وإن لم تخطر له القضية الكلية، كما يعلم أن بدن الإنسان بعضه أكثر من بعض، وأن الدرهم أكبر من بعضه، وأن المدينة أكثر من بعضها، وأن الجبل أكبر من بعضه، وكذلك النقيضان وهما‏:‏ الوجود والعدم، فإن العبد إذا تصور وجود أى شىء كان وعدمه، علم أن ذلك الشىء لا يكون موجودا معدوما فى حالة واحدة، وأنه لا يخلو من الوجود والعدم، وهو يقضى بالجزئيات المعينة، وإن لم يستحضر القضية الكلية، وهكذا أمثال ذلك ‏.‏
ولما كان القياس الكلى فائدته أمر مطلق لا معين، كان إثبات الصانع بطريق الآيات هو الواجب، كما نزل به القرآن، وفطر الله عليه عباده، وإن كانت الطريقة القياسية صحيحة، لكن فائدتها ناقصة، والقرآن إذا استعمل لعله فى الآيات الإلهيات استعمل قياس الأولى لا القياس الذى يدل على المشترك، فإنه ما وجب تنزيه مخلوق عنه من النقائص والعيوب التى لا كمال فيها، فالبارى تعالى أولى بتنزيهه عن ذلك، وما ثبت للمخلوق من الكمال الذى لا نقص فيه كالحياة، والعلم، والقدرة، فالخالق أولى بذلك منه، فالمخلوقات كلها آيات للخالق، والفرق بين الآية وبين القياس‏:‏ أن الآية تدل على عين المطلوب الذى هو آية وعلامة عليه، فكل مخلوق فهو دليل، وآية على الخالق نفسه، كما قد بسطناه فى مواضع‏.‏
ثم الفِطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، لم تعلم أن هذه الآية له، فإن كونها آية له ودلالة علىه، مثل كون الاسم يدل على المسمى، فلابد أن يكون قد تصور المسمى قبل ذلك، وعرف أن هذا اسم له، فكذلك كون هذا دليلاً على هذا يقتضى تصور المدلول عليه، وتصور أن ذلك الدليل مستلزم له، فلابد فى ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه، فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلا، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له، والناس يعلمون أن هذه المخلوقات آيات ودلائل للخالق، فلابد أن يكونوا يعرفونه، حتى يعلموا أن هذه دلائل مستلزمة له ‏.‏
والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية، هى التى جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأى والسمع ‏.‏
والمتفلسفة كابن سينا والرازى ومن اتبعهما قالوا‏:‏ إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لابد له من واجب، قالوا‏:‏ والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين‏.‏ وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، ورَكَّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا، بل زعم أنه ممكن‏.‏ وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذَّاقُهُمْ عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بينا فى مواضع أن القِدَم، ووجوب الوجود، متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف على طائفة منهم نزاع فى ذلك، إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديمًا أزليًا‏.‏
ثم إن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس فى دليلهم أنه مغاير للسموات والأفلاك، وهذا مما بيَّن تهافتهم فيه الغزالى وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبًا؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبًا، هذا عمدتهم ‏.‏
وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالى فساده بحسبه ‏.‏
وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان‏:‏ فيقال للموجود بنفسه الذى لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهى المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعى التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بسط القول عليه فى مواضع ‏.‏
والمقصود هنا الكلام أولاً فى أن سعادة العبد فى كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه؛ أى فى أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:16 am

الشرك بالله أعظم الذنوب

وقال شيخ الإسلام‏:‏
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصى الله به،قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 48، 116 ‏]‏ وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏أى الذنب أعظم ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل لله ندا وهو خلقك‏)‏‏!‏‏!‏ والند المثل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏ الزمر‏:‏ 8‏]‏ فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة ‏.‏
فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود، الذى تألهه القلوب وترغب إليه،وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلها ‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏ الزخرف‏:‏15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏‏[‏ مريم‏:‏ 93‏]‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 172‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏ الذاريات‏:‏ 51 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏ الزمر‏:‏ 11‏]‏، فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته ،قال تعالى ‏:‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، فذكر ‏(‏الحمد‏)‏ بالألف واللام التى تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره فى قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏ الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فهذا تفصيل لقوله‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏ فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته‏:‏ من المحبة والخوف، والرجاء ،والأمر ،والنهى‏.‏‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذى يتصرف فى ملكه كما يشاء ‏.‏
فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك ‏:‏1‏]‏ فلا يرى نفعا،ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله سبحانه وتعالى فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه‏.‏ فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية‏.‏ والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات ‏.‏
فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية ‏.‏
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير السارى فى الأكوان،كما قال الله عز وجل‏:‏‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه فى عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل فى مشهد الربوبية ‏.‏
ولهذا قيل‏:‏ إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة فى ذلك ‏.‏
ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها، وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرَّمِيَّةِ ‏.‏
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله، لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة؛ أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين‏:‏ الأمر الشرعى، ومشهد الأمر الكونى الإرادى‏.‏ وقد زلت فى هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين؛ لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه، ففنوا بمرادهم عن مراد الحق عز وجل منهم؛لأن الحق يغنى بمراده ومحبوبه، ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شىء من ذلك؛لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته، بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه ؛كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان‏:‏‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعى الذى يحبه مولاه ويرضاه ‏.‏
فإذا تقرر هذا، فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه، وهو نوعان ‏:‏
شرك فى الإلهية، وشرك فى الربوبية ‏.‏
فأما الشرك فى الإلهية فهو‏:‏ أن يجعل لله نداً، أى‏:‏ مثلا فى عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذى لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى‏:‏‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏38‏]‏ وهذا هو الذى قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركى العرب؛ لأنهم أشركوا فى الإلهية، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ الآية ‏[‏ البقرة ‏:‏165‏]‏، وقالوا‏:‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ الآية ‏[‏ الزمر‏:‏3‏]‏، وقالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏!‏ ‏[‏ ص‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ‏}‏ ‏[‏ ق‏:‏ 24‏:‏ 26 ‏]‏ ‏.‏
وقال النبى صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن‏:‏ ‏(‏كم تعبد ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ ستة فى الأرض وواحد فى السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن الذى تعد لرغبتك ورهبتك ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ الذى فى السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ألا تسلم فأعلمك كلمات ‏؟‏‏)‏ فأسلم‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِى رشْدى، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي‏)‏‏.‏
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏؟‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84- 89 ‏]‏، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هى التى تُنَزِّل الغَيْثَ، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرناه‏:‏ اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى، فقد أشرك، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏96-98‏]‏‏.‏ وكذا من خاف أحداً كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله، وما أشبه ذلك ‏.‏
وأما النوع الثانى‏:‏ فالشرك فى الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطى المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل ،فمن شهد أن المعطى أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته ‏.‏
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطى الأول مثلا ،فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أسْدَى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏ لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏ النحل‏:‏53‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏20‏]‏، فالله سبحانه هو المعطى على الحقيقة، فإنه هو الذى خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطى هو الذى أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره‏.‏ فهو الأول والآخر‏.‏
ومما يقوى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ ‏(‏واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجَفَّت الصُّحُفُ‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏ فهذا يدل على أنه لا ينفع فى الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا فى مقتضى الربوبية ‏.‏
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لَوْمِه وذَمِّه إياهم، وتجرَّد التوحيد فى قلبه، فقوى إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفُضَيْل بن عياض رحمه الله ‏:‏ من عرف الناس استراح‏.‏ يريد والله أعلم أنهم لا ينفعون ولا يضرون ‏.‏
وأما الشرك الخفى‏:‏ فهو الذى لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل‏:‏ أن يحب مع الله غيره‏.‏
فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة، لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏ آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فَلَيْسَ الكَلام فى هذا‏.‏ إنما الكلام فى محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص فى توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته، لم يحب سواه ‏.‏
ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل فى محبته‏.‏ وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت، كثرت محبوباته وانتشرت
وكذا الخوف، والرجاء ،وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏39‏]‏، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا فى المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفى، الذى لا يكاد أحد أن يسلم منه، إلا من عصمه الله تعالى‏.‏ وقد روى أن الشرك فى هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏.‏
وطرق التخلص من هذه الآفات كلها‏:‏ الإخلاص لله عز وجل، قال الله تعالى‏:‏‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏ الكهف‏:‏110 ‏]‏، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى ‏.‏
فصل
ولابد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها، أو تذهب عنها بالكلية، بحول الله وقوته ‏.‏
فنقول‏:‏ اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة‏:‏ المحبة، والخوف، والرجاء‏.‏ وأقواها المحبة، وهى مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد فى الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول فى الآخرة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62 ‏]‏، والخوف المقصود منه‏:‏ الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد فى السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره ‏.‏
فإن قيل‏:‏فالعبد فى بعض الأحيان، قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأى شىء يحرك القلوب ‏؟‏ قلنا‏:‏ يحركها شيئان ‏:‏
أحدهما‏:‏ كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به، ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ الآية ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 41-42‏]‏
والثانى‏:‏ مطالعة آلائه ونعمائه، قال الله تعالى‏:‏‏{‏فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏ النحل‏:‏53 ‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطِنَةً‏}‏ ‏[‏ لقمان‏:‏ 20 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏ إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏
فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه، من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلابد أن يثير ذلك عنده باعثا، وكذلك الخوف، تحركه مطالعة آيات الوعيد، والزجر، والعرض، والحساب ونحوه، وكذلك الرجاء، يحركه مطالعة الكرم، والحلم، والعفو ‏.‏
وما ورد فى الرجاء والكلام فى التوحيد واسع‏.‏ وإنما الغرض التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ‏.‏










السابق
الآيات القرآنية
الفهرس
التالي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:19 am

الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور لأنه تعظيم للمحلوف به

والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبى حنيفة وأحد القولين فى مذهب الشافعى وأحمد، وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هى مكروهة كراهة تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر‏:‏ لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغير الله صادقاً‏.‏ وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب‏.‏ إنما نعرف النزاع فى الحلف بالأنبياء، فعن أحمد فى الحلف بالنبى صلى الله عليه وسلم روايتان ‏:‏
إحداهما‏:‏ لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور‏:‏ مالك وأبى حنيفة والشافعى‏.‏
والثانية‏:‏ ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضى وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء‏.‏ وقصر أكثر هؤلاء النزاع فى ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم خاصة، وعَدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء‏.‏ وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيا قول ضعيف فى الغاية، مخالف للأصول والنصوص، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس‏.‏
وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم وبينهما فرق فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم، وثبت عنه فى الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ قال ذلك لما قال أنس بن النضر‏:‏ أتكسر ثنية الرُّبيع ‏؟‏ قال‏:‏ لا والذى بعثك بالحق لا تكسر سنها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا أنس، كتاب الله القصاص‏)‏، فرضى القوم وعفوا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره‏)‏ رواه مسلم وغيره، وقال‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بأهل الجنة ‏؟‏ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره‏.‏ ألا أخبركم بأهل النار ‏؟‏ كل عتل جواظ ‏[‏العتل‏:‏ الشديد الجافى والفظ الغليظ من الناس‏.‏ والجواظ‏:‏ الكثير اللحم المختال فى مشيته، انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 3180، 1316‏]‏‏.‏ مستكبر‏)‏ وهذا فى الصحيحين‏.‏ وكذلك حديث أنس بن النضر والآخر من أفراد مسلم‏.‏
وقد روى فى قوله‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏منهم البراء بن مالك‏)‏ وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون‏:‏ يا براء أقسم على ربك‏.‏ فيقسم على الله فتنهزم الكفار‏.‏ فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا‏:‏ يا براء، أقسم على ربك‏.‏ قال‏:‏ يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتنى أول شهيد‏.‏ فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ‏.‏ وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك فى دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمى به إلى الحديقة حتى فتح الباب‏.‏
والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله، فالكفارة على الحالف الحانث‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏[‏سألتك بالله أن تفعل كذا‏]‏ فهذا سؤال وليس بقسم، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏من سألكم بالله فأعطوه‏)‏ ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله‏.‏ والخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر فى البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا ، وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون‏.‏ فالسؤال كقول السائل لله‏:‏ أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام‏.‏ وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏.‏ وأسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك‏.‏
فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً عليه؛ فإن أفعاله هى مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو ؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولى‏:‏ اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى‏)‏‏.‏
وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادى، وفى الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول‏:‏ يا دليل الحيارى، دلنى على طريق الصادقين، واجعلنى من عبادك الصالحين‏.‏
وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب؛ ولهذا يقال فى الدعاء‏:‏ يا رب، يا رب، كما قال آدم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 23 ‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏ هود‏:‏ 47 ‏]‏، وقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37 ‏]‏ وكذلك سائر الأنبياء‏.‏ وقد كره مالك وابن أبى عمران من أصحاب أبى حنيفة وغيرهما أن يقول الداعى ‏:‏ يا سيدى، يا سيدى‏.‏ وقالوا‏:‏ قل كما قالت الأنبياء‏:‏ ربِّ، رَبِّ‏.‏ واسمه ‏(‏الحى القيوم‏)‏ يجمع أصل معانى الأسماء والصفات، كما قد بسط هذا فى غير هذا الموضع؛ ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقوله إذا اجتهد فى الدعاء‏.‏
فإذ سئل المسؤول بشىء والباء للسبب سئل بسبب يقتضى وجود المسؤول‏.‏
فإذا قال‏:‏ أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، كان كونه محموداً مناناً، بديع السموات والأرض يقتضى أن يمن على عبده السائل، وكونه محموداً هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه؛ ولهذا أمر المصلى أن يقول‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏ أى استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع‏)‏ أى لا يستجاب‏.‏
ومنه قول الخليل فى آخر دعائه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏ ‏[‏ إبراهيم‏:‏ 39‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏ 47 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏ 41 ‏]‏ أى‏:‏ يقبلون الكذب، ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك؛ ولهذا أمر المصلى أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه‏.‏
وقال النبى صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلى ويدعو، ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال‏:‏ ‏(‏عَجِل هذا‏)‏، ثم دعاه فقال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبى صلى الله عليه وسلم، وليدع بعد بما شاء‏)‏، أخرجه أبو داود والترمذى وصححه ‏.‏
وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كنت أصلى والنبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه، ثم دعوت لنفسى فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سل تعطه‏)‏‏.‏ رواه الترمذى وحسنه‏.‏
فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ على هذه الحال التى هم عليها لم يقبلوا الحق ثم ‏{‏لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏، فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن ولو فهموه لم يعملوا به‏.‏ وإذا قال السائل لغيره‏:‏ أسأل بالله، فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كف الظلم، فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب فى حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضيا لمسببه من أمر الله تعالى‏.‏
وقد جاء فى حديث رواه أحمد فى مسنده وابن ماجه، عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول فى دعائه‏:‏ ‏(‏وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك‏)‏‏.‏
فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذى جعله سبباً لإجابة الدعاء كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 26‏]‏‏.‏
وكما يسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضى إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 193 ‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 109، 110‏]‏ ‏.‏
ويشبه هذا مناشدة النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنجز لى ما وعدتنى‏)‏‏.‏ وكذلك ما فى التوراة‏:‏ أن الله تعالى غضب على بنى إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم ‏.‏
ومن السؤال بالأعمال الصالحة‏:‏ سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله؛ لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه، محبة تقتضى إجابة صاحبه‏.‏ هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه‏.‏
وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر‏:‏ اللهم أمرتنى فأطعتك، ودعوتنى فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لى، ومنه حديث ابن عمر‏:‏ أنه كان يقول على الصفا‏:‏‏(‏اللهم إنك قلت وقولك الحق ‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏ غافر‏:‏ 60 ‏]‏، وإنك لا تخلف الميعاد‏)‏، ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر أنه كان يقوله على الصفا ‏.‏










السابق
الآيات القرآنية
الفهرس
التالي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
اسلامي للموت
مدير الموقـــع
مدير الموقـــع
اسلامي للموت


عدد المساهمات : 144
رصيد العضو من النقاط: : 6153
تاريخ التسجيل : 17/05/2011
العمر : 28
الموقع : https://habaeb7.mam9.com

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالخميس مايو 26, 2011 6:21 am

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Ads01_16

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Ads02_16

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://habaeb7.mam9.com
حامي الدين

حامي الدين


عدد المساهمات : 76
رصيد العضو من النقاط: : 5444
تاريخ التسجيل : 18/05/2011

فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Empty
مُساهمةموضوع: رد: فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله    فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله  Emptyالثلاثاء يونيو 28, 2011 3:23 am

شكراا اخي جزااااك الله
مجهود رائع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فتاوي الشيخ ابن تيمية رحمة الله
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حربهم مع الله ! الشيخ : أحمد القطان
» قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم الشيخ : سليمان العلوان
» سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل وتعلم وتعض

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
شـبكـه ومنتديات الحبيب المصطفى :: ..,؛"منتدى الفتاوى"؛,..-
انتقل الى: