الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين ... والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين ..
نواصل باذنه تعالى ..
المستخرجات وفوائدها
نشاة المُسْتَخْرَجات وتطورها ... وفنِّ الرِّواية عند المُسلمين وبراعتهم فيهِ ... والصِّلة بينَ المُسْتَخرجات الحديثيَّةِ وعلم معاجم الشُّيُوخ والمشيخات ..
أوَّل مَن صَنَّفَ في المُسْتَخْرَجات هو أبو أحمدَ حُميدُ بن مَخْلَدِ بن قُتَيْبَةَ بن عبدِاللَّهِ الأزديُّ النَّسائيُّ ، المعروف بابنِ زَنْجُويه ، وهو لقبُ أبيهِ (ت251هـ)( ، صاحب كتاب (( الأموال))
قال الكَتَّانيُّ : وكتابه كالمُسْتَخْرَجِ على كتاب أبي عُبيدٍ ، وقد شاركهُ في بعض شيوخهِ وزاد عليهِ زيادات..
إنَّ فَنَّ المُسْتَخْرَجاتِ ماهو إلاَّ لَون مِن ألوان فنِّ التَّخريج
وهذا اللَّون من المُصَنَّفات هو نوعٌ مِن أنواعِ عِلْم رواية النُّصوصِ عند المُسلمينَ ... الذي يتميَّز بالحيويَّة والنَّشاط ...
تعريف المُسْتَخْرَجات:
المُسْتَخرجُ لغةً : اسم مفعولٍ مُشتقٌ مِنَ الفعلِ استخرج المزيد مِنَ الثُّلاثي خَرَجَ ، والخُرُوج نقيض الدُّخولِ ، وخارجُ كلَّ شيءٍ ظاهرهُ ، والاستخراج كالاستنباط ، واستَخْرَجْتُ الشَّيءَ مِنَ المَعْدَنِ خَلَّصْتُهُ مِنْ تُرَابِهِ ..
والمستخرج اصطلاحاً : هو كلُّ كتابٍ حديثيٍّ خُرِّجت أحاديثهُ وفق أحاديث أحد المُصَنَّفَاتِ بِأسانيد صاحبِ المُسْتَخْرَجِ ، مِنْ غَيرِ طريقِ مُصَنِّفِ الكتاب المُسْتَخْرَجِ عليهِ ، فيجتمعُ معهُ في شيخهِ ، أو مَنْ فَوقهُ ..
شرح التَّعريف : هذا التَّعريف استنبطتهُ مِن وصفِ الإمام العراقي لموضوع المستخْرَجِ قال الإمامُ العراقيُّ : المُسْتَخْرَجُ موضوعهُ : أن يَأتي المُصَنِّفُ إلى كتابِ البُخَارِيِّ ، أو مُسْلِمٍ فيُخَرِّجُ أحاديثهُ بأسانيد لِنَفْسِهِ مِنْ غَيرِ طَريقِ البُخَارِيِّ ، أو مُسْلِمٍ ، فَيجتمعُ إسناد المُصَنِّف مع إسناد البُخَاريِّ أو مُسْلِمٍ في شيخهِ ، أو مَنْ فَوقهُ...
قال الإمامُ السَّخاويُّ : والاستخراج : أن يَعْمَدَ حافظٌ إلى (( صحيح البُخاريِّ)) مثلاً فَيورد أحاديثهُ حديثاً حديثاً بأسانيدَ لِنَفْسِهِ غير مُلْتَزمٍ فيها ثِقَة الرُّواة .. وَإنْ شذَّ بعضهم حيثُ جعلهُ شرطاً مِنْ غَيرِ طريقِ البُخَارِيِّ إلى أنْ يلتقي معهُ في شيخِهِ أو في شيخِ شيخهِ ، هكذا ولو في الصَّحابيِّ ، كما صَرَّحَ بهِ بعضُهُم ..
لكن لا يَسُوغُ للمُخَرِّجِ العدول عن الطَّريقِ التي يقربُ اجتماعهُ مع مُصَنِّفِ الأصلِ فيها إلى البعيدَةِ إلاَّ لغرضٍ مِن عُلُوٍّ ، أو زيادة حُكْمٍ مُهِمٍّ، أو نحو ذلكَ ، ومُقتَضى الاكتفاء بالالتقاء في الصَّحابيِّ أنَّهُما لو اتَّفقا في الشَّيخِ مثلاً ولم يتَّحد سندهُ عندهُما ، ثُمَّ اجتمعَ في الصَّحابيِّ إدخالهُ فيهِ ، وإن صَرَّحَ بعضهُم بخلافهِ..
ورُبَّما عَزَّ على الحافظِ وجود بعض الأحاديثِ فيتركهُ أصلاً ، أو يُعَلِّقُهُ عن بعضِ رواتهِ ، أو يُوردهُ مِن جِهَةِ مُصَنِّفِ الأصلِ..
والكُتُبُ المُخَرَّجة لم يلتزم فيها موافقتها للكتب المُخَرَّجَةِ عليها في الألفاظِ ، فحصلَ فيها تفاوت في اللَّفظِ والمعنى ..
قال ابنُ الصَّلاح : صَنَّفَ على صحيح مُسْلِمٍ قومٌ مِنَ الحُفَّاظِ، وأدرَكوا الأسانيد العاليةَ ، وفيهم مَنْ أدركَ بعضَ شُيوخِ مُسْلِم ، فَخَرَّجُوا أحاديثهِ في تَصَانيفهم تلكَ فالتحقت بهِ في أنَّ لها سِمَة الصَّحيحِ وإنْ لم تَلتحق بهِ في خَصائِصِهِ جمع ، ويُسْتَفادُ مِن مُخَرَّجَاتِهِم المَذكورة عُلُوّ الإسناد ، وفوائد تنشأ مِن تكثيرِ الطُّرقِ ، وَمِن زيادةِ ألفاظ مُفيدة ، ثُمَّ إنَّهم لم يَلتزموا فيها المُوافقة في ألفاظ الأحاديث مِن غَير زيادةٍ ولا نَقصٍ لكَونهم يَروونها بأسانيدَ أُخر ، فأوجبَ ذلكَ بعض التَّفاوت في بعضِ الألفاظ ..
فلا يجوز أن تنقل منها حديثاً وتقول : هو كذا فيهما إلاَّ أن تُقابله بِهِما ، أو أن يَقُولَ المُصَنِّفُ أخرجاهُ بلفظهِ ..
المبحث الثَّاني : مِن صور المُسْتَخرَجات :
مِن صور المُسْتَخرَجات :
أ- قال البُخَارِيُّ : وقال خَارِجَةُ بنُ زَيدِ بنِ ثَابتٍ عن زيدِ بنِ ثَابتٍ (( أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودَ ، حَتَّى كَتَبْتُ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَه ، وَأَقْرَأتهُ كُتبهم إذَا كَتَبُوا إليهِ )) .
وقد أخرجهُ البَرْقَانيُّ في (( مُسْتَخْرَجه)) موصولاً ، قال : قَرَأتُ على أبي حَاتِمٍ محمدِ بن يَعْقُوبَ ، أخبركم مُحمدُ بنُ عَبدِالرَّحمن السَّامِيُّ ، حَدَّثنا خَلَفُ بنُ هِشَامٍ ، حَدَّثنا ابنُ أبي الزِّنادِ ، عن أبيهِ ، عن خَارِجَةَ بن زيدٍ ، عن أبيهِ ، قَالَ : أَمَرَني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُود ، فَما مَرَّ بِيَ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( واللَّهِ إِنِّي لا آمِنُ اليَهُودَ عَلَى كِتَابي )) . قَالَ : فَلَمَّا تَعَلَّمْتُ كُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إلى يَهُود إذَا كَتَبَ إِلَيهِم ، فَإذَا كَتَبُوا إليهِ ، قَرَأْتُ لَهُ)).
وهكذا أوصلهُ البَرْقَانيُّ بسندهِ ، فالتقى مع البخاريِّ في خارجة بن زيد ..
أشهر المستخرجات :
المُسْتَخْرَج على صحيح البُخاريِّ : للإمامِ الحافظِ أبي العبَّاس محمد بن أحمد بن حَمدانَ بن ابن عليٍّ الحِيْرِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ (ت360هـ) . قال الذَّهبيُّ : وقد سَمِعَ بمنصورة - وهي أمُّ بلاد بلاد خُوارزم - بعضَ (( صحيح البُخاري)) مِنَ الفَرَبْرِيِّ ، فوجدهُ نازلاً ، فَصَنَّفَ على مثالهِ مُسْتَخْرَجاً لهُ .
الصِّلة بين التَّخريج والمُستخَرَّجات ، ومعاجم الشُّيوخ والمشيخات
التخريج إصطلاحاً : عَرَّفَ الإمامُ السَّخاويُّ التَّخريج بأنَّهُ : إخراج المُحَدِّث الأحاديثَ مِن بطونِ الأجزاء والمشيخات ، ونحوها وسياقها مِن مَروياتِ نَفْسِهِ ، أو بعض أصحابِ الكُتُبِ والدَّواوين ، مع بيان البَدَل ، والموافقة ، ونحوهما . . وقد يتوسع في إطلاقهِ على مجَرَّد الإخراجِ ..
وَقالُ الإمام أبو بكر ابن ماكولا (ت629هـ) : خَرَّجَ الأحاديثَ تَخْريجاً أي أعدَّ أسانيدها حَسب أصول الرِّواية ، وَخَرَّجَ لِفُلانٍ تَخْريجاً أي جَمَعَ أحاديثهُ مِنَ الكُتُبِ والسَّماعاتِ بأسانيدِها ..
وعلى هذا فإنَّ المُسْتَخْرَجَات ماهي إلاَّ لونٌ مِن ألوان التَّخريج ..
فوائد المستخرجات ومعاجم الشُّيوخ والمَشيخات
إنَّ تتبعَ الطُّرق المختلفة للروايةِ الواحدةِ ، ومحاولة ربط الأسانيد بعضها ببعضٍ ، ومحاولة بيان الإسناد العالي وأقسامهِ المختلفةِ للرواياتِ ليسَ هو الغرض الوحيد للمُصَنِّفِينَ للمُسْتَخْرَجَاتِ ، وَمعاجم الشُّيوخِ والمَشْيَخَاتِ...وإنَّما شَاركَتهُ أغراضٌ أُخرى مُتَعَدِّدة حاولَ المُصَنِّفُون مُعالجتها ، بعضها يتعلَّقُ بالأسانيدِ ، وبعضُها الآخرُ يتعلَّقُ بالمتونِ ، ومن بعضَ هذهِ الأغراض وفوائدها ما يلي :
ا- عُلُو الأسنادِ : إنَّ علو الإسناد : هو قِلَّةُ الوسائِط في السَّنَدِ ، أو قِدَمِ سَمَاع الرَّاوي ، أو وفاته وهو سُنَّةٌ مِن السُّنَنِ ولذلِكَ استُحِبَّت الرِّحْلَة . قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: طلبُ الإسناد العالي سُنَّة عَمَّن سَلَفَ ، لأنَّ أصحابَ عبدالله كانوا يرحلونَ مِنَ الكوفةِ إلى المدينةِ فيتَعَلَّمونَ مِن عُمَرَ وَيَسْمعونَ منــهُ وعُلــوه يُبعِدهُ مِن الخَللِ المُتَطَرِّقِ إلى كُلِّ رَاو..
2- زيادة الثِّقَات : زيادةُ الثَّقاتَ ، هو ما نراهُ زائِداً مِنَ الألفاظِ في رواية بعضِ الثِّقاتِ لحديثِ ما رواهُ الثِّقاتُ الآخرونَ لذلكَ الحديثِ ، وتقَعُ هذهِ الزيادة في المَتْنِ بزيادةِ كلمةٍ ، أو جُملةٍ ، أو في الإسنادِ برفعِ موقوفٍ ، أو وَصْلِ مُرْسَلٍ..
وهو فَنٌ لطيفٌ يُسْتَحْسَنُ العِناية بهِ ، ويُعْرَفُ بجمعِ الطُّرُقِ والأبوابِ
3- القوة بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ : وفائِدتُهُ للتَّرْجيحِ عندَ المُعَارَضَةِ..
4- الزيادةٌ في قَدْرِ الصَّحيح : وذلكَ لِمَا يقعُ مِن ألفاظٍ زائِدَةٍ ، وتَتِمَّاتٍ في بعضِ الأحاديثِ. . من ذلك مارواهُ البُخاريُّ : حدَّثنا مُعاذُ ابنُ فُضَالةَ ، قال : حَدَّثنا هِشَامٌ ، عن يحيى ، عن مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ بن الحارثِ ، قال : حَدَّثني عيسى بنُ طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ مُعاويةَ يوماً فقال : مثلهُ إلى قولهِ : (( وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ)) ..
5- تَمييزُ رواية المُخْتَلِط ، وبيان زَمَنِها : وذلكَ أن تكونَ الرواية عَمَّن اختلطَ ولَم يتَبَيَّن هل سَماع ذلكَ الحديث في هذهِ الرواية قبلَ الاختِلاطِ أو بعدَهُ؟ فَتُبَيِّنهُ الطُّرُقُ الأُخرى ، إمَّا تَصريحاً ، أو بأن يأتي عنهُ مِن طَريقِ مَن لَم يَسْمَع مِنهُ إلاَّ قبلَ الاختلاط..
6- التَّصريحُ بالسَّماعِ عندَ ورودِ عَنْعَنَة المُدَلِّسِ : إذ قد يأتي الحديثُ في رِوايةٍ عن مُدَلِّسٍ بالعَنْعَنَةِ ، فتأتي الطُّرُقُ الأخرى بالتَّصْريحِ بالسَّماعِ..
7- التَّصريحُ بالأسماءِ المُبْهَمَةِ في الإسنادِ ، أو المَتْنِ : كَحَدَّثَنا فُلان ، أو رَجُل ، أو فلان وغيره ، أو غير واحدٍ ، أو رأى رجُلاً ، فتأتي الطُّرُقُ الأخرى فتُعَيِّنهُ..
8- تَعْيينُ الأسماء المُهْمَلَة في الإسْنادِ ، أو في المَتْنِ : كَـأن يأتي في طَـريقٍ مُحَمَّدٌ مِــن غَــيرِ ذِكْــر ما يُمَيزهُ عــن غَيرهِ مِنَ المُحَدِّثينَ ، ويكونُ في مَشايخِ مَن رواهُ كذلكَ مَن يُشارِكُهُ في الاسمِ ، فتأتي الطُّرُقُ الأخرى فتُمَيزُهُ عن غَيرهِ..
9- التَّمييزُ للمَتْنِ المُحَال بهِ على المَتْنِ المُحال عليهِ : كَما وقعَ في كِتابِ مُسْلِمٍ ، فإنَّهُ يُخَرِّجُ الحديثَ على لفظ بعضِ الرُّواةِ ، ويُحيلُ بباقي ألفاظِ الرواة على ذلِكَ اللَّفظِ الذي يُورِدهُ فتارةً يقولُ : مثلهُ ، فيحملُ على أنَّهُ نظيرٌ سواء . وتارةً يقولُ : نحوهُ أو مَعناهُ ، فتوجد بينهُما مُخالفةٌ بالزِّيادةِ والنَّقْصِ ، وفي ذلكَ مِنَ الفوائِدِ ما لا يَخْفى ..
10- تَعيينُ الإدْراج في الإسنادِ ، أو في المَتْنِ : إذ قَد تأتي روايَةٌ فيها إدراجٌ ، وهو ما كانت فيهِ زيادةٌ ليست منهُ، فتأتي الطُّرُقُ الأُخرى للرِّوايةِ فتكشفُ الإدْراج ..
11- وصلُ المُعَلَّقَات : قــد تأتي روايةٌ فيها حديثٌ مُعَلَّقٌ ، وهــو ما حُذِفَ مِن مبدأ إسنادِهِ واحد فأكثَر ، فتأتي بقيَّة الرواياتِ فتوصلها ..
12- رفعُ الموقُوفِ : قد تأتي الرواية موقوفة على الصَّحابيِّ مِن قَولِهِ أو فِعْلِهِ ، أو نحوهِما ، فتأتي الطُّرُقُ الأُخرى للرِّوايةِ فَتُصَّرِّحُ بِرَفْعِها ..
13- بيانُ أحكامٍ فِقْهِيَّةٍ : قد تأتي رِوايةٌ مُختصَرةُ الألفاظِ ، فتأتي بقيَّةُ الطُّرُقِ الأُخرى فتزيدُ فيها مِنَ الأحكامِ الفقهيَّةِ ..
مثالُ ذلكَ ماروى ابنُ ظهيرة في ترجمة شيخِهِ مُحَمَّدِ بنِ رَافِعٍ مِن حديثِ أنَسٍ رضي اللهُ تعالى عنهُ : أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ مِن فَرَسٍ على شِقِّهِ الأيْمَنِ ، فَدَخَلوا عليهِ يَعُودُونَهُ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلمَّا قضى الصَّلاة ، قال : (( إِنَّما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ بهِ .. )) الحديث ، ثُمَّ ذَكَرَ للرِّوايةِ طُرُقَاً أُخرى مِن رِوايةِ أنَسٍ فيها مَزيد مِنَ الفوائِدِ الفِقْهيَّةِ..
14- بيانُ عِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ ، سواءٌ في الإسنادِ ، أو في المَتْنِ : قد يذكُرُ المُصَنِّفُ رواية فيها عِلَّةً مِنَ العِلَلِ ، ثُمَّ يروي لها طُرُقاً أُخرى لِيُبَيِّنَ طبيعة الرِّواية الصَّحيحة ، ومكان العِلَّة في الرواية المُعلَّةِ ، وَمَن هو الراوي الذي تسببَ في هذهِ العِلَّة ، ومثالُ ذلكَ ما رواهُ ابنُ ظَهيرَةَ في ترجمة شَيخِهِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَرَفَةَ ، حيثُ ذَكَر مِن طريقِ مَالكِ بن أنَسٍ حديث ابن عُمَرَ رضي اللهُ عنهُ : (( اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ)) ، قالوا : والمُقَصِّرينَ يارسولَ اللهِ؟ ، قالَ : (( وَالمُقَصِّرينَ )) ، ثُمَّ أتبع هذهِ الرواية بذِكْرِ طُرقها المُختلفةِ عن مالكٍ لبيان الاختلاف عليهِ في ألفاظِ هذهِ الرواية..
15- شَرحُ لفظٍ ، أو بيانُ معْنَىً مِنَ المعاني : قد تأتي روايةٌ مِنَ الروايات تحتملُ أوجُهَاً مُخْتَلِفَة ، فيتبعها المُصَنِّفُ برواياتٍ أُخر لِتُؤكِدُ وجهَاً مِنَ الوجوهِ ، ومِن ذلكَ ماأخرجهُ ابنُ ظهيرة في ترجمة شيخهِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ ابنِ مَنْصُورٍ ،حيثُ ذَكَرَ حديث حَريْز بن عُثمانَ أنَّهُ سألَ عَبْدَاللهِ بنَ بُسْرٍ صاحب رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ورضِيَ عنهُ ، قالَ : (( أَرَاَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ شَيْخَاً؟ . .)) الحديث ، وأردفهُ برواية (( أَشَابَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟)) ..
16- بيانُ الاختلاف في الأسانيدِ : قد يذكُرُ المُصَنِّفُ روايةً مِنَ الرِّواياتِ ، ثُمَّ يُتْبِعُها بذكرِ طُرُقٍ أُخرى لبيانِ الاختلافِ الواقِعِ في إسنادِ الروايةِ الأولى ..
الخاتمة :
يُعدُّ عِلْمُ رواية النُّصُوص مِنَ العُلُومِ التي تَمَيَّزَ بها المسلمون منذُ القِدَم ، ووضعوا لها القواعِدَ والضَّوابطَ ، سواءٌ في الرَّاوي ، أو المَرْوي على حَدٍّ سواء ، وبرزت أنواعٌ عديدةٌ مِنَ الفنون المُختلفة لخدمة عِلْمِ الرِّواية وما يتعلَّقُ بها ، وَأُلِّفت ألوانٌ مُختلفةٌ مِنَ المُصَنَّفات اشتقَّت لنفسِها مسالكَ مُتعددة الجوانب ، غير أنَّ روابطها العُضويَّة تتَّفقُ فيما بينها . .
المٌدَلَّس
1-تعريف التدليس:
أ) لغة : المدلس اسم مفعول من " التدليس " والتدليس في اللغة : كِتْمان عَيْبِ السلعة عن المشتري ، وأصل التدليس مشتق من " الدَّلس " وهو الظلمة أو اختلاط الظلام كما في القاموس ، فكأن المدلَّس لتغطيته على الواقف على الحديث أظلم أمره فصار الحديث مٌدلَّسا ..
ب) اصطلاحاً: إخفاء عيب في الإسناد. وتحسين لظاهره.
2-أقسام التدليس:
للتدليس قسمان رئيسيان هما: تدليس الإسناد .. وتدليس الشيوخ..
3- تدليس الإسناد:
لقد عرف علماء الحديث هذا النوع من التدليس بتعريفات مختلفة ، وسأختار أصحها وأدقها ـ في نظري ـ وهو تعريف الإمامين أبي أحمد بن عمرو البزار وأبي الحسن بن القطان . .
وهذا التعريف هو :
أ)تعريفه: أن يَرْوِيَ الراوي عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر سمعه منه ..
ب) شرح التعريف : ومعنى هذا التعريف أن تدليس الإسناد أن يروي الراوي عن شيخ قد سَمِعَ منه بعض الأحاديث، لكن هذا الحديث الذي دلسه لم يسمعه منه ، وإنما سمعه من شيخ آخر عنه ، فيٌسْقِطٌ ذلك الشيخَ ويرويه عنه بلفظ محتمل للسماع وغيره ، كـ " قال " أو " عن " ليوهم غيره أنه سمعه منه ، لكن لا يصرح بأنه سمع منه هذا الحديث فلا يقول : " سمعت " أو " حدثني " حتى لا يصير كذاباً بذلك ، ثم قد يكون الذي أسقطه واحداً أو أكثر. .
ت) الفرق بيه وبين الإرسال الخفي : قال أبو الحسن بن القطان بعد ذِكْرهِ للتعريف السابق: " والفرق بينه وبين الإرسال هو : أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه " وإيضاح ذلك أن كلا من المدلِّس والمرسل إرسالا خفياً يَرْوِي عن شيخ شيئاً لم يسمعه منه ، بلفظ يحتمل السماع وغيره ، لكن المدلَّس قد سمع من ذلك الشيخ أحاديث غير التي دلسها ، على حين أن المرسل إرسالا خفياً لم يسمع من ذلك الشيخ أبداً ، لا الأحاديث التي أرسلوها ولا غيرها لكنه عاصره أو لقيه ..
ث) مثاله : ما أخرجه الحاكم ، بسنده إلى على بن حَشْرَم قال : " قال لنا ابن عيينة : عن الزهري ـ فقبل له: سمعته من الزهري ؟ فقال : لا ، ولا ممن سمعه من الزهري ، حدثني عن عبدالرزاق عن مَعْمَر عن الزهري " ففي هذا المثال أسقط ابنُ عُيينة اثنين بينه وبن الزهري ..
4- تدليس التسوية:
هذا النوع من التدليس هو في الحقيقة نوع من أنواع تدليس الإسناد ..
أ) تعريفه: هو رواية الراوي عن شيخه ، ثم إسقاط راو ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر ،وصورة ذلك أن يروي الراوي حديثاًَ عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، ويكون الثقتان قد لقي أحدهما الآخر، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول ، فيُسْقِط الضعيف الذي في السند ، ويجعل الإسناد عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل، فيُسَوْي الإسناد كله ثقات..
وهذا النوع من التدليس شر أنواع التدليس، لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفاً بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة, وفيه غرور شديد..
ب) أشهر من كان يفعله :
1- بَقّية بن الوليد . قال أبو مُسْهر : " أحاديث بَقِيَّة ليست نَقَيَّه فكنْ منها على تٌَِقِيَّة". .
2- الوليد بن مسلم .
3- مثاله : ما رواه ابن أبي حاتم في العلل قال : " سمعت أبي ـ وذَكَرَ الحديث الذي رواه اسحق بن راهويه عن بقية حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر حديث لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عُقْدَةَ رأيه ـ قال أبي: هذا الحديث له أمر قل من يفهمه ، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو ( ثقة ) عن اسحاق بن أبي فروة ( ضعيف ) عن نافع ( ثقة ) عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم . وعبيد الله ابن عمرو ، كنيته أبو وهب ، وهو أسدى ، فكناه بقيةُ ونسبه إلى بن أسد كي لا يفطن له ، حتى إذا ترك اسحق بن أبي فروة لا يٌهْتَدَى له "..
5- تدليس الشيوخ:
أ) تعريفه: هو أن يَرْوي الراوي عن شيخ حديثاً سمعه منه، فيُسَمِّيهُ أو يَكْنَيِهُ أو يَنْسِبَهُ أو يَصِفهٌ بما لا يُعْرَفُ به كي لا يُعْرَفُ ..
ب) مثاله : قول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء : " حدثنا عبدالله بن أبي عبدالله ، يريد به أبا بكر بن أبي داود السجستاني " ..
6- حكم التدليس :
أ) أما تدليس الإسناد: فمكروه جداً. ذمة أكثر العلماء وكان شعبة من أشدهم ذماً له فقال فيه أقوالا منها: "التدليس أخو الكذب "..
ب) وأما تدليس التسوية : فهو أشد كراهة منه ، حتى قال العراقي :" أنه قادح فيمن تَعَمَّدَ فعله " ..
ج) وأما تدليس الشيوخ : فكراهته أخف من تدليس الإسناد لأن المدلس لم يٌسقط أحداً ، وإنما الكراهة بسبب تضييع المروي عنه ، وتوعير طريق معرفته على السامع وتختلف الحال في كراهته بحسب الغرض الحامل عليه ..
7- الأغراض الحاملة على التدليس :
أ) الأغراض الحاملة على تدليس الشيوخ أربعة هي:
1- ضعف الشيخ أو كونه غير ثقة ..
2- تأخر وفاته بحيث شاركه في السماع منه جماعة دونه..
3- صغر سنه بحيث يكون أصغر من الراوي عنه ..
4- كثرة الرواية عنه، فلا يحب الإكثار من ذكر اسمه على صورة واحدة..
ب) لأغراض الحاملة على تدليس الإسناد خمسة وهي:
1-توهيم عُلُوِّ الإسناد ..
2- فَوَات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير ..
3- 4- 5 ـ الأغراض الثلاثة الأولي المذكورة في تدليس الشيوخ. .
8- أسباب ذم المدلس: ثلاثة هي :-
أ) إيهامه السماع ممن لم يسمع عنه ..
ب) عدوله عن الكشف إلى الاحتمال ..
ج) علمه بأنه لو ذكر الذي دلس عنه لم يكن مَرْضِيّا ..
9- حكم رواية المدلِّس :
اختلف العلماء في قبول رواية المدلَّس على أقوال، أشهرها قولان. .
أ) رد رواية المدلس مطلقا وإن بين السماع، لأن التدليس نفسه جرح.. ( وهذا غير معتمد )..
ب) التفصيل: ( وهو الصحيح )..
1- إن صرح بالسماع قبلت روايته ، أي إن قال " سمعت" أو نحوها قبل حديثه ..
2- وان لم يصرح بالسماع لم تقبل روايته، أي إن قال " عن " ونحوها لم يقبل حديثه..
10- بم يعرف التدليس ؟
يعرف التدليس بأحد أمرين :
أ) إخبار المدلس نفسه إذا سئل مثلا ، كما جرى لابن عيينة ..
ب) نَصُّ إمام من أئمة هذا الشأن بناء على معرفته ذلك من البحث والتتبع ..
11 - أشهر المصنفات في التدليس والمدلسين :
هناك مصنفات في التدليس والمدلسين كثيرة أشهرها :
أ) ثلاثة مصنفات للخطيب البغدادي ، واحدا في أسماء المدلسين ، واسمه التبيين لأسماء المدلسين2 والآخران أفرد كلا ً منهما لبيان نوع من أنواع التدليس..
ب) التبيين لأسماء المدلسين : لبرهان الدين بن الحلبي ..
ت) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس للحافظ ابن حجر ..